الماركسية والعقل الأحادي

الماركسية والعقل الأحادي

http://www.socialisthorizon.net/index.php?option=com_content&view=article&id=870:2010-07-09-15-18-08&catid=37:2009-06-15-08-49-52&Itemid=63

سلامة كيلة

مثّلت الماركسية إنتقالة في آليات (طرائق) التفكير، قبل أن تمثّل تصوراً أيديولوجياً أو إنتماءً طبقياً، وطموحاً بديلاً لعالم مختلف.

ولقد إستند ماركس في تحقيق هذه الإنتقالة على هيغل،

الذي «أعاد بناء» الفلسفة القديمة، حقق عبرها «إعادة بناء» المنطق، مما جعله يتجاوز منطق أرسطو دون أن ينفيه، بل ضمنه منطقه الجديد: الجدل. حيث أصبح منطق أرسطو مستوى أوّل في منطق أشمل. وبالتالي فقد ضمّن منطقه الجديد كل المفاهيم والمقولات الفلسفية، كما ضمنه «ثلاثية» أرسطو (التي هي: الهوية، التعادي، الثالث المرفوع)، لكن كبداية تهدف إلى التحديد، وهنا التحديد الساكن. فقد أقام منطقه على أساس الانتقال من السكون إلى الحركة. منطق أرسطو إنبنى على السكون وعلى التحديد الذاتي، وعلى التمايز الواصل إلى التعادي المطلق، كما على الثبات المطلق للهوية.

هذه أوليات ضرورية لتحديد أشياء الواقع، لكنها عاجزة عن تحديد الواقع، لأنه متحوّل ومترابط وفي صيرورة.

ماركس «هضم» منطق هيغل، وجعله أساس بناء كل التصورات والأفكار، وهو يقرّ ذلك في مقدمة كتابه «رأس المال». ولقد حقق إنسجام بنائه النظري وتوصل إلى قوانين بالاستناد إلى هذا المنطق، الذي ـ بالاستناد إلى مادية فيورباخ ـ أعاد «تركيبه»ـ أو ربما يكون الأدق القول أنه أعاد «توجيهه». فبدل أن يكون زاوية النظر للبحث في الفكر الخالص (لأن الفكر هو الذي يخلق الوجود حسب هيغل)، أصبح زاوية النظر للبحث في الواقع (و بضمنه الفكر الذي هو إنعكاس الواقع).

هذه الانتقالة في طرائق التفكير هي التي سمحت بـ: وعي الواقع، ووعي آليات تغييره، وبالتالي في تحديد دور البشر في عملية التغيير هذه. وأصبحت الأساس في إعادة «بناء الوعي» إنطلاقاً من أن الواقع في صيرورة، لا يمكن اكتشافها مسبقاً، يمكن التوقع، ويمكن التأشير، لكن ليس من الممكن التحديد. حيث أن البشرية لا تطرح على نفسها سوى أسئلة تستطيع الإجابة عليها، وفق ما أشار ماركس نفسه. الأمر الذي يجعل هذه الطرائق الأساس في رؤية مستمرة لصيرورة واقعية لا تني تتحوّل.

هذه الانتقالة إنتكست في الماركسية الرائجة، التي هي «الماركسية اللينينية»، الماركسية التي تبلورت في الاتحاد السوفيتي، وأصبحت أساس «الوعي العام» بالماركسية، وأساس دراستها وتدريسها، وبالأخص أساس تحديدها. فقد جرى التخلي عن (أو تشويه، أو العجز عن استيعاب) الطابع الجدلي للماركسية، حيث جرى الارتداد من مستوى العقل حيث المنطق هو أساس الرؤية( وهنا الجدل المادي). إلى مستوى الفهم حيث منطق أرسطو يكفي لذلك، لأنه يكفي لمعرفة «السطح» (المسمى في الفلسفة، الشكل)، لأن تحويل النص (الذي يشمل مواقف من مختلف قضايا المجتمع) إلى نص مطلق يفرض هذا «الانحطاط»، ولأن تحوّل النص إلى قوانين تحكم العالم يحتاج إلى منطق أرسطو.

لهذا تحكّم بـ «ماركسيتنا»، منطق أحادي يقوم على «الدوران بين حدّين»، حيث أن العالم يتضمّن ثنائيات متعادية (وليس متناقضة أو متضادة) أي لا ارتباط بينها، وهي متعاكسة بشكل مطلق، كما أنها ثابتة لا تتغير. هنا سنلمس مفاعيل منطق أرسطو (إذا أشرنا إلى شكل «فلسفي») والمنطق النصي اللاهوتي (إذا أشرنا إلى شكل «عامي»). ولما كان «النص المقدس» هو الذي حكم الماركسية الرائجة، فقد كان المنطق اللاهوتي (بعامّيته) هو الرائج لديها وهو في كل الأحوال متوارث لدينا، كما كان متوارث في روسيا الستالينية، حيث عبّر عن استمرار المنطق التقليدي (السلفي، الأصولي…)، مما كان يؤشر إلى مسألتين حاسمتين:

الأولى: أن لحظات كل من ديكارت و كانط ومن ثم هيغل لم تستحضر لدينا، وبالتالي فإن فكر عصر النهضة لم يتضمن «اللحظة الفلسفية». مما جعل «الوعي العام» تقليدياً.

الثانية: إن إعتناق الماركسية لم ينبنِ على «العقل»، (سوى لدى البعض)، بل كان نتيجة إنحياز طبقي/ قومي في الصراع ضد الرأسمالية والاستعمار والاستغلال. لهذا «هضم» الماركسية السوفياتية كنص مطلق، كشعارات وأهداف، وليس كوعي وتكوين فكري.

لقد تأسست الماركسية كشعارات وأحلام، ولم تتأسس كوعي، وكتكوين «عقلي». لهذا استعارت الأهداف والشعارات، وقرأت المبسطات المكمّلة، ولم تجهد في وعي ما كتبه ماركس/ إنجلز ولينين ، وكل الماركسيين الآخرين (بليخانوف، كاوتسكي، هلفردينع، ماو، لوكاش، غرامشي…) لقد قرأت (حينما قرأت) الكتب التي تغذي الشعارات والأهداف، وهربت من الكتب التي تكوّن الوعي، وخصوصاً المنطق، الذي كان يعتبر «زائدة» لا فعل له، مادام الماركسيين يمتلكون منطقهم (البسيط، الساذج). مما يسمح لنا القول أن الماركسية التي راجت كانت «ماركسية نضالية» تقدم «التبريرات» للأهداف العملية، ولم تكن ماركسية عالِمة، «ماركسية العقل»، والتكوين النظري.

وإذا كانت إشكالاتها خلال السنوات الطويلة تمظهرت في أنها رسمت سياسات خاطئة، واتبعت تكتيكات ساذجة، مما جعل دورها الواقعي هامشياً (رغم كل النضالات الهامة التي قدِّمت)، ومن ثمّ قادتها إلى التفكك والتحللّ، وربما التلاشي. حيث إنبنت استراتيجيتها على «النفي» دون «التركيب»، وعلى الدعم دون القيادة، والإصلاح دون التغيير، ولعب دور كبير في ظل قيادة هزلية.

إذا كانت إشكالاتها تلك نبعت من «غياب الوعي»، وبالأساس غياب الانتقالة التي حققها ماركس (بعد هيغل) فإن إنهيار المنظومة الاشتراكية أعاد «ترتيب» الإشكالات، دون أن يلغيها، أو حتى يؤشر إليها، حيث ظل «الدوران بين حدّين» هو المنطق الذي يتحكمّ بالرؤية. ظل «العقل الأحادي» هو الذي يتحكم بالتصورات، وخصوصاً بالاستنتاجات الجديدة، ليبدو وكأن الاستنتاج الوحيد من ذاك الانهيار تمثل في ضرورة الانقلاب لموقف معاكس لما كان يطرح في السابق (نظرياً فقط، لأن الموقف العملي بقي كما كان لدى البعض).

ويمكن أن نلحظ ذلك في المسألة الأساسية التي تتعلق بالخيار المبدأي (الاستراتيجي). إن إلتزام الماركسية كان يجعل الاشتراكية هي الخير المطلق وبالتالي كان يجعل الرأسمالية هي الشر المطلق. وهنا لكلمة «مطلق» معنى عميق، وذو نكهة دينية، حيث ليس من الممكن أن يتضمن الخير المطلق نسبه (حتى هامشية) لما هو ليس خيراً (وإن لم يكن شراً)، فهو مطلق (كما الله)، ولا يمكن أن يكون غير ذلك على الإطلاق. وكذلك فإن الشر المطلق لا يتضمّن أي إحتمال لخير، فهو مطلق، إننا إزاء لفظٍ لمفهوم النسبية، حيث لا موقع للنسبي، لأن المطلق يجبُّ ما عداه (بينما في الجدل المطلق يتضمّن حكماً النسبي، ولا مطلق دون النسبي).

الاشتراكية إذن هي «الخير العميم»، و«الصلاح التام»، ولا يمكن أن تحوي مشكلات أو خلل، أو إنحرافات، أو ميول خاطئة. بينما الرأسمالية تحوي كل ذلك وأكثر، كما أنها أصبحت «عالة» على التاريخ، متعفنة وتعيش أزماتها التي ستطيح بها، ويكفي أن يوصم «شيء ما» بأنه رأسمالي لكي يلفظ، وكان ذلك أساس لفظ كل منجزات الرأسمالية السياسية (الديمقراطية) والعلمية، والتقنية..الخ.

طبعاً يتوضّح الآن أن هذه النظرة لا واقعية على الإطلاق، خصوصاً بعد إنهيار الاشتراكية، وبالتالي يؤشر إلى أن البحث في الواقع كان غائباً، كما أن الآليات الذهنية التي تسمح ببحث علمي في الواقع كانت غائبة كذلك. وسوف أضيف إنها لازالت غائبة، لأن طريقة التعاطي مع الانهيار توضّح ذلك، حيث أن الذي تحقق هو «تحويل الرؤية» وليس تغيير آليات «العقل»، بمعنى أن تحديد الخير والشر هو الذي إختلف، فأصبحت الاشتراكية هي الشر المطلق (ولاشك في أن الأحكام المقذعة، والمطلقة التي توصم بها الاشتراكية توضّح ذلك)، كما أصبحت الرأسمالية هي الخير المطلق (لهذا يجري الهرب من الإشارة إلى شرورها، وإلى تلطيف شكلها، ورسمها في شكل مجمّل).

ويمكن تلمس الآليات المنطقية التي حكمت ذلك على الشكل التالي: لقد كانت الاشتراكية هي الخير المطلق، وحالما تبيّن (عبر الانهيار المدوّي، ونشير هنا إلى أن الصحوة في إطار هذا المنطق لا تتحقق إلا نتيجة فعل مدوّي) أنها ليست مطلق (وهنا ألمس أن المسألة تتعلق بالطابع المطلق للخير، ولا تتعلّق بالخير ذاته) إنقلبت إلى شر مطلق. هذه العملية، وهي الخطوة الأولى في الصيرورة المنطقية تلك، دقيقة وتحتاج إلى فهم عميق لأنها تتعلق بآليات مسيطرة في الوعي العام، حيث هنا( أ ) أو لا( أ )حسب مفهوم الهوية لدى أرسطو، وبالتالي فإما إشتراكية مطلقة الصحة و المثالية و الكمال أو لا إشتراكية، إذن فهي ب (حسب منطق أرسطو كذلك، حيث (أ) هو على تعادي مع (ب)) أي شر، شر مطلق الجريمة والاستبداد و الإبادة والتخريب.

النسبي هنا لا مكان له، حيث لا نسبي في هذا المنطق، وبالتالي فمجرّد اكتشاف نسبية الأشياء يحوّلها إلى نقائض، يقلبها إلى عكسها. وهنا نلمس مدى الهروب من البحث في الواقع، وتلمّس مشكلاته الحقيقية، من أجل تحديد طبيعة تكوينه، وبالتالي إصدار الحكم حوله. لأن المطلق لا يقود إلى البحث، ولا يسمح بوعي الواقع، لأنه محدّد ذهنياً، وآلياته لا تستوجب الواقع على الإطلاق، على العكس فإن إستحضار الواقع (كلية الواقع) يدمره، وسيكون «الواقع» لاحقاً لإصدار الحكم، حيث يستحضر الجزء الذي يفيد الحكم ويشطب (يُعمَّى على) كلّية الواقع.

لهذا، إذا كانت الاشتراكية تعني إنهاء الاستغلال و الاضطهاد، و تعني التعليم المجاني والطبابة المجانية وحق العمل والسكن والأجور المناسبة، ورياض الأطفال.. الخ،وفق ما كانت تُلقى بشكل تبجيلي، فقد أصبحت هي الاستبداد و إضطهاد القوميات، والتعذيب وسلطة المخابرات.. الخ وفق ما بات يشار بعد انهيارها. رغم أنها كانت تحوي كليهما. ولقد تأسست التجربة الاشتراكية على تضمّن كل ذلك، وما إكتشفه النقّاد بعد إنهيارها كان موجوداً فيها منذ زمن بعيد، وكانت «الدعاية الرأسمالية» تركز عليه، كما أن العديد من الماركسيين كان يشير إليه (التروتسكية مثلاً). والمسألة الأساسية هنا تتمثل في وعي هذا الوضع بكليته. لكن «العقل الأحادي» يرفض ذلك رفضاً مطلقاً، لأن الشيء إذا ما كان صحيحاً، فهو صحيح بالمطلق، وإذا كان خاطئاً فهو خاطىء بالمطلق أيضاً. وبالتالي إذا كانت الاشتراكية تتضمن كل هذه «الحقوق» وهذا النمط من «الرفاه»، فهي صحيحة مطلقاً، ولا يمكن أن تحوي كل تلك الفواجع والفظاظة. ولما خدشت هذه الصورة، إنقلبت إلى العكس فأصبحت هي السجون و القمع والاضطهاد والاستبداد وغيرها من الشرور، لأن «الشيء» لا يمكنه أن يتضمن الصورتين، وإن «تجاورهما» هو هتك للمنطق، لذا يسود منطق «إما، أو».

ولكن هذا الانقلاب يستدعي إنقلاباً آخر مكملاً. وهذه هي الخطوة التالية الضرورية ضرورة الخطوة الأولى ذاتها، وليس من الممكن تحقق الانفصال بينهما. حيث حينما يكون هناك شر مطلق، هناك خير مطلق، فالعالم هو «الدوران بين حدّين»، ولا يمكن أن يكون غير ذلك، و إلا إنتفى، إنتهى، أصبح عدماً. ولما كانت الرأسمالية هي الطرف الآخر في هذه الثنائية (إشتراكية/ رأسمالية)، ستصبح حكماً إذن، هي الخير المطلق، وهنا يجري التشكيك بكل التحليلات السابقة، والاستهزاء بالفكرة حول أزماتها الدورية، وبشرورها واضطهادها ونهبها…الخ. والتأكيد على «قيمها» (الديمقراطية والحرية والليبرالية)، ومقدرتها على التطور، ومنجزاتها..الخ. الأمر الذي يفرض «شطب” كل شرورها، وتبرير كل سياساتها، والدفاع عن حقها وأحقيتها (وصولاً أحياناً إلى تبرير أن نلعب دور الخدم لديها)، في سياق عملية تجميل شاملة، تهدف إلى إظهار الرأسمالية وكأنها الخير المطلق (رغم بعض المشكلات التي تنتج عرضياً والتي يجب أن تقبل في سياق العملية التاريخية الضخمة التي تقوم بها. وكان شيء من ذلك يقال عن الاشتراكية كذلك).

وإذا كانت النظرة السابقة للرأسمالية ليست دقيقة أو خاطئة، وبالتالي كانت بحاجة إلى نقد، ووضع أسس جديدة لفهم طبيعة الرأسمالية وتكوينها، فإن «العقل الأحادي» يلغي ذلك، لأنه لا يحتاج إلى بحث في الرأسمالية لتغيير الموقف منها، حيث يكفي القول بأن الاشتراكية شر مطلق، لكي يتحوّل الموقف نحوها في عملية ذهنية خالصة، ولتكون «المهمة التالية» هي تبرير الموقف الجديد، ليجري إجتزاء الواقع والوقائع، فكما أشرت، إن «العقل الأحادي» لا يبحث في الواقع من أجل وعيه، بل يبحث فيه عن مبررات لفكرة محددّة مسبقاً، وهنا هو يستعيد المنطق النصيّ الستاليني (والمنطق النصي عموماً واللاهوتي خصوصاً) حيث يبقى الواقع هو مجال إثبات الفكرة، ويبقى الذهن هو منتج الفكرة متعالياً على الواقع.

إذن في الواقع ثنائيات، والذهن يدور بينها، أي بين الحدّين، ولا مجال لأن يتجاوزها و إلا أصيب بالهلع، تاه بين وقائع متشابكة متداخلة ومتناقضة، فتلاشى أو أحس بدنو الأجل، حيث ليس من الممكن وعي الأشياء إلا حينما تدور بين حدّين، وإذا كان الواقع ليس كذلك فإن العقل الأحادي يجبره على أن يكون كذلك، و إلا تحطّم هو.

هذه الثنائية (الاشتراكية الرأسمالية) يمكن تلمّسها في سياق الحركة الماركسية العربية، حيث سيبدو أنها «العنصر المهيمن» في الوعي الماركسي وأساس كل استراتيجية الحركة.

ولاشك في أنني كنت أشير الى ماركسيتنا الرائجة حين تحدثت سابقاً عن ثنائية الاشتراكية/ الرأسمالية، حيث أشرت إلى أن «البناء النظري العام» تأسس على تمجيد الاشتراكية ورفض الرأسمالية. لكن هذه كانت «الفكرة العامة»، أو القناعة الأيديولوجية»، بينما لم يكن ضرورياً أن تتوافق مع «الفكرة الواقعية»، الفكرة التي حكمت نشاط الحركة الشيوعية. وهنا سنلمس تناقضاً عميقاً، حيث سيكون التطور الرأسمالي هو هدف الحركة الشيوعية، وهي هنا تهمّش دورها إنطلاقاً من أن وقته لم يحن بعد، مما جعلها «تدعم تطور الرأسمالية»، وتدافع عن حقوق الطبقة العاملة المطلبية طبعاً، وتدعو إلى «الديمقراطية» في إطار سيادة الملكية الخاصة الرأسمالية.

هذه الفكرة تبلورت نهاية ثلاثينات القرن العشرين، وأصبحت جوهر سياسة الحركة الشيوعية العربية. ورغم أنها اختلفت عن تصور لينين، وكانت تتقاطع مع تصور بليخانوف و المناشفة، فقد انبنت على أساس المفاهيم التي عممتها «الماركسية اللينينية». وهنا تأكيدها على خطية تطور المجتمعات البشرية، و جبريته حيث يجري الانتقال من المشاع إلى الرق، إلى الإقطاع، وحتماً إلى الرأسمالية قبل إتباع سياسة تهدف إلى تحقيق الإشتراكية. والجبرية هنا جزء مكوّن لمنطق العقل الأحادي، فالمسألة (إما، أو)، إما الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية، أو استحالة الانتقال إلى الاشتراكية، حيث أن الحتمية تفرض الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية ولا ثالث لهذا التطوّر الخطي.

هذا التصور هو الذي حكم سياسة الحركة الشيوعية العربية، وحدّد تكتيكاتها (لهذا كانت مهادنة، ومكتفية بالحدود التي تقرّها الرأسمالية التي كانت مهادنة ومساومة، وقابلة بالأمر الواقع). وكان هذا التصوّر هو أساس فشلها لأن هذا الخيار كان محتجزاً، وبالتالي مستحيلاً، مما وضعها في مأزق أنقذتها الحركة القومية العربية منه، التي حاولت تحقيق «خيار آخر»، فالتحقت بها لكن على أرضية الحركة القومية التي كانت تدّعي أنها تحقق الاشتراكية، مما قادها إلى مأزق عميق آخر.

إذن كانت الرأسمالية هي خيار ماركسيتنا. وحينما نشأ «الضد» في سبعينات القرن «العشرين» رفضت هذا التصوّر، وأكدت على الطابع الاشتراكي للثورة (وستصبح المهمات الديمقراطية ملحقاً فيها)، وعلى تأسيس سلطة إشتراكية. هذا التصور كان ينسجم مع «العقيدة»، كان يتماهى معها. وهنا لم يكن تحليل الواقع هو المؤسس لهذا التصور، وسيبدو ذلك واضحاً حين رؤية المآلات.

فحالما انهارت الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي إنقلب الموقف، فقد أصبحت الاشتراكية مجال رفض، وعادت الرأسمالية هي خيار ماركسيتنا، ويمكن هنا أن نكرر ما كان يقوله خالد بكداش في أربعينات القرن العشرين ليكون مطابقاً للأقوال التي باتت تتكرّر، إلا في مسألة واحدة، هي مسألة معاداة الإمبريالية والاستعمار حيث كان بكداش متسقاً في معاداته.

الأمر الذي يدعونا إلى القول بأن المسألة تتكرر، لكن بشكل هزلي، لكن السؤال هو لماذا العودة إلى «الأصول»؟ إذا كانت فكرة بكداش هي الفريضة فإن الفكرة المضادة هي النفي، لكننا نعود من جديد إلى الفريضة (مهزلة)، وهو ما يعيد صياغة سياسة فشلت. وليس تحليل الواقع هو الذي يفضي إلى هذه النتائج، بل أن «المحاكمة الذهنية» هي التي تؤسس لهذا الدوران بين حدّين.

لكن هل من خيار غير هذين الخيارين؟ نعم، هناك خيار مركب، لكن وحده المنطق الجدلي يستطيع تحقيقه. فكيف يمكن، مثلاً أن نفصل بين المهمات الديمقراطية التي حققتها الرأسمالية الأوروبية، وبالتالي غدت ملاصقة لها، وبين الرأسمالية ذاتها؟ هل يستطيع العقل الأحادي أن يميّز بين هذا وذاك؟ ويرى أن عالمية النمط الرأسمالي جعلت الرأسمالية ليست «طبقة تقدمية»، وبالتالي غير معنية بتحقيق «مهماتها»؟ كذلك هل يستطيع العقل الأحادي أن يميّز بين الاشتراكية والطبقة العاملة، ويرى أن الطبقة العاملة قادرة على تحقيق المهمات الديمقراطية كنقطة إنطلاق لتحقيق الاشتراكية ومن ثم هل يستطيع مسك هذا التركيب.

الجواب لا، لهذا فهو يدور بين حدّين، ويصاب بالرعب حالماً يلمس بأن حداً ثالثاً يمكن أن يوجد واقعياً.

هذه المشكلة لتطال كل السياسة، أي كل المسائل التي تتعلق بالواقع، والتي تُرى غالباً مفككة، وساكنة. فإذا لمسنا مسألة الأمة والأممية سنلمس الدوران بين حدّين، وإذا تناولنا التكتيك سنلمس العقل ذاته.

لهذا استخلص بأنه ليس من الممكن للماركسية أن تلعب دوراً حقيقياً، سواء في وعي الواقع، أو في تغييره، إلا بالمسك بالانتقالة التي حققها ماركس، ليصبح الجدل المادي هو «طريقة التفكير»، و«آليات الذهن” و “زاوية النظر”.

About منظمة علي النهري في الحزب الشيوعي اللبناني

موقع منظمة علي النهري في الحزب الشيوعي اللبناني
هذا المنشور نشر في الماركسية وكلماته الدلالية . حفظ الرابط الثابت.

أضف تعليق