بين “ديمقراطيتهم” وديمقراطيتنا ثورة

بين “ديمقراطيتهم” وديمقراطيتنا ثورة

النداء160/ مع الحقيقة

سمير دياب

لم ينتظر الشعب العربي إجماع علماء السياسة والاجتماع المختلفين حول مفهوم ومدلول الديمقراطية، ليأخذ قراره الثوري بإنتزاع ديمقراطيته. والقرار هذا، لا يشكل تعدياً على علماء الإغريق، ولا تمرداً على فلاسفة الثورة الفرنسية. إنما هو قرار الحاجة الاجتماعية لحركة تطور التاريخ الإنساني. وقرار العلاقة الجدلية بين الضرورة والديمقراطية.

تحكم في سيرورة القرار، التناقض القائم بين المفهوم المجرد من جهة، والتطبيق الواقعي من جهة أخرى. هذا التناقض مرده إختلاف الايديولوجيات: بين تحكم طبقة الاقلية المسيطرة بمصير طبقة الاغلبية المحكوم عليها، والمسحوقة بفعل الفوارق الشاسعة في نمط الحياة، ونمط العلاقات الاجتماعية القائمة بين الطبقتين.

القرار الشعبي الثوري انطلق، وملأ الساحات العربية، بأهداف واضحة وصريحة. تجاوز الاعتراف الشكلي الحقوقي للمفهوم، ودخل الى أساس القضية المفتقدة والمنفية. وهي قضية “الديمقراطية” بأبعادها النظرية والمعرفية، وبمستوياتها السياسية والاجتماعية. إنه إذاً، قرار الثورة الشعبية الديمقراطية ضد “ديمقراطية” نظم، منزوعة من حق الرأي والكتابة والتعبير والابداع الفكري والنقدي .. وخالية من أوكسجين الحرية والحياة. ” ديمقراطية” مفتوحة على قلة طبقية ونفعية محدودة جداً تابعة للنظام. ومقفلة بالحديد والنار على اكثرية طبقية مظلومة وممنوعة من تنشق الحرية والديمقراطية، وفي تحقيق حلم تطبيق مفاعيل قانون “حكم الشعب نفسه بنفسه”.

حلم الشعوب بالتحرر الفكري والمادي ليس وليد اللحظة، ولم يكن يوماً. فتاريخه من تاريخ الإنسان. ولد معه، وإستمر الى يومنا هذا. وسيبقى مستمرا في تعبيره الصادق عن طموح كافة الفئات الاجتماعية المضطهدة، وبخاصة، الطبقة العاملة في إنتزاع حق التمتع بالحرية والكرامة والديمقراطية. وما دام في تاريخ البشرية، طبقة اجتماعية تمثل الاقلية تتحكم بطبقة اجتماعية تمثل اكثرية الاكثرية وتضطهدها، وتعيش تحت سلطتها مرارة الحياة، وكثرة الممنوعات.. ما دام الصراع الطبقي قائماً. وهذا يعني أنه قاعدة وقانون. في ظل حركة هذا القانون وتناقضاته الاجتماعية لا حيلة ولا قوة لديكتاتور حاكم، أو لسلطة اوتوقراطية ، أو أوليغارية، أن تمنع التطور التاريخي، أو تعتقل حركته المادية، مهما طال الزمن.. و”الديمقراطية كقضية” في صلب قانون الصراع الطبقي.

ما يحرك بيتنا العربي اليوم- ثورة شعبنا، هو الجوع الى الديمقراطية، والتعطش الى الحرية. فالطبقة الرأسمالية التبعية – الحاكمة قلدت مرجعيتها الرأسمالية الأصلية اسوأ تقليد في تبني مفهوم الديمقراطية، وأضافت نكهتها الإستبدادية بأسواط أدواتها الامنية لتأبيد سلطاتها “الديمقراطية”، وأستمرت ثابتة على عزف النغمة نفسها، بأن الخلل- المشكلة يقع على مفهوم الديمقراطية، دون التطرق الى مضمون ” حكم الشعب نفسه بنفسة”.

هذه الطبقة المتسّيدة منذ عقود طويلة، والمتربعة بأشكالها وانواعها على بساط بيتنا العربي كله تجاهلت، أو تعمدت تجاهل قانون “التناقض الاجتماعي”، أي تناقض المصالح الطبقية في المجتمع، المنقسم الى طبقات، وموقع كل طبقة في عملية النشاط الاجتماعي –الانتاجي. وهذا بحد ذاته الموقف الايديولوجي بإمتياز الناتج عنه نفي الصراع الطبقي كقانون. وهو القانون ذاته الذي حضر بقوة في الشارع العربي الذي أعلن حركته، ثورته، بأهدافه الديمقراطية السلمية التي شكلت الوجه الايجابي للصراع الطبقي. وإذا كان البعض تفاجأ من سرعة الحركة الشعبية واتساعها وشموليتها، إلإ أن ردود فعل السلطات المستبدة على إنتفاضات شعوبها لم تفاجئ عاقلا واحدا. كونها بالاساس أنظمة ديكتاتورية. لا تقيم وزنا لرأي وكرامة الناس، ولا لطموح الجماهير في الحرية والمساواة والعدالة والديمقراطية.

مشهد الصراع السياسي- الاجتماعي الدائر ميدانياً، تجاوز بقواه المنتفضة مرحلة القبول بشكليات العملية الإصلاحية الى مرحلة النضال الجذري للإصلاح، وفي المقدمة منها المطالبة بمؤسسات ديمقراطية فعلية تمارس فيها الجماهير بحرية كافة حقوقها الديمقراطية، في المشاركة بصنع القرار وتنفيذه بكل شؤون إدارة المجتمع، وتنظيمه، اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وثقافياً وتشريعيا.. مع حقوق المراقبة والمساءلة والمحاسبة.

القرار الشعبي الثوري، أثمر اولى نتائجه بإسقاط رموز الحكم في تونس ومصر. لكن قضية التطابق بين مفهوم الديمقراطية وطموح جماهيرها الشعبية تواجه عقبات الثورة المضادة الداخلية المتكافلة مع قوى الامبريالية العالمية التي تعمل على خطين متوازيين. ولكل خط فلسفته في حساباتها لإبقاء سيطرتها ونفوذها في المنطقة، ولو اقتضت هذه السياسة التخلي عن ديكتاتور هنا، أو لعب دور المنقذ الإنساني عن الثورة الديمقراطية هناك. من هنا، فإن نجاح الثورة العربية على امتدادها، تتطلب يقظة وطنية، وبرنامجاً ثورياً لمكوناتها. كما تتطلب دوراً فاعلاً للطبقة العاملة، ونقاباتها، واحزابها، الى جانب الفئات الاجتماعية ذات العلاقة لدفع العملية الثورية التاريخية باتجاه التغيير الديمقراطي الجذري. وإلا، فإن مخاطر تقويضها ولجمها وتحويل مسارها الديمقراطي – السلمي الى مسارات الحروب العشائرية أو الطائفية والمذهبية لطمس جوهر الصراع الطبقي، وتوجيهه نحو إحتراب الطبقة العاملة والفئات الشعبية مع بعضها- ذاتها، بدل صراعها ضد عدوها الطبقي، يصبح امرا غالبا..

المنطق العلمي والتجربة التاريخية، والملموسة راهناً في بيتنا العربي، تفيدنا، أن الطبقة البرجوازية لم يكن خيارها يوماً الى جانب ديمقراطية الطبقة العاملة والكادحة. كونها تدرك تماماً أن موقعها كطبقة في ساحة الصراع الديمقراطي سيتصدع، وان امتيازاتها ستتقلص، وان حكمها سيتلاشى.. لذلك نراها متشابهة في بلداننا العربية، تأخذ موقعاً معادياً للديمقراطية، ثم تبالغ في ردود فعلها ضد المطالبين بها، بإستخدام المزيد من العنف والقمع والقتل عبر الأدوات الأمنية والعسكرية لوقف حركة التاريخ، الإنتفاضة، الثورة.. وهي غير مدركة أن هذا الخيار في لحظة تاريخية ما، لا يصب في مصلحتها الطبقية، ولا هو الضمانة للحفاظ على موقعها وثباتها في السلطة. لأن قانون التناقض قاطع بأحكامه، ولأنه كذلك، فإن المزيد من القمع والقتل يدفع الشعوب الى مرحلة الانفجار بالقوى الطبقية ذاتها التي اختارت وتختار هذا الاسلوب الخطر.

*****

الديمقراطية، ليست كلمة أو مفهوماً مجرداً. إنما هي قضية محورية مفتقدة في حياة الإنسان العربي. وهي كانت من أعقد ما واجهته حركة التحرر الوطني العربية، ومن صلب أزماتها. لذلك، فإن النضال لإنتزاعها وتكريسها مهمة طبقية. وهي المهمة الوطنية والقومية ذاتها، القادرة على حماية مقاومتنا، وعلى إعادة تفعيل دور حركة التحرر الوطني العربية- الثورية في مواجهة خطر المشروع الإمبريالي الأميركي – الصهيوني- الرجعي في المنطقة.

إنها لحظة النضال والعمل. واللحظة الثورية لتلازم عملية التحرير بالتغيير الديمقراطي. إنتصاراً لقانون حكم الشعب نفسه بنفسه

About منظمة علي النهري في الحزب الشيوعي اللبناني

موقع منظمة علي النهري في الحزب الشيوعي اللبناني
هذا المنشور نشر في فن/أدب/وجهة نظر وكلماته الدلالية , , , , , . حفظ الرابط الثابت.

أضف تعليق